جميع الأسعار تشمل ضريبة القيمة المضافة.
السفينة الخامسة

السفينة الخامسة

تاريخ النشر:
2014
عدد الصفحات:
338 صفحة
الصّيغة:
19.99 ر.س

نبذة عن الكتاب

"ما زلت أتذكر كل حركة قمت بها وقتها. أتذكر أني مررت بكفّي عدة مرات فوق الطين، وضغطت على كل ما نتأ فوق الأرض، وسويته بأصابعي. أتذكر أني رحت بعدها أتقلب فوق الحشائش، أمعن النظر في ذلك المكان الخواء، كأنني أردت التخلص من شكوكي حول وجوده، وأنه ليس حلمًا راودني وأنا نائمة وسط الحشائش. لكني حلمت بالقارب، وحلمت أيضًا بتلك المقبرة الصغيرة. كلها أشياء محتملة. الإنسان يرقد، ويفكر، ثم يغلبه النعاس، فينام لمدة ساعة، أو ساعتين. ساعتين من الحياة يقضيهما في أحد الأغوار، وتظلان هناك إلى الأبد، محرومتين من أي فرصة في حياة كاملة، على نحو أفضل. الحلم يجمع بين أشياء تبدو غير مؤتلفة، فيتأملها الإنسان ويسعى إلى أن يجد ما يربطها ببعضها. لوتسيا ـ أمي اسمها لوتسيا، طلبت مني منذ صغري ألا أناديها بكلمة ماما؛ لأنها تشعر كأنها عجوز خَرِفة ـ كانت كثيرًا ما تنام بهذه الطريقة: عيناها مواربتان، بهما خطان أسودان رطبان، لا تطرف بهما، وأحيانًا كانت تحرك مقلتيها يمينًا ويسارًا كأنهما بندول ساعة. تتحسس بأصابعها مسند المقعد، وتجلس مُنكبّة على نفسها، وقدماها أسفل جسمها. هكذا كانت تظهر فوق الأريكة البنية القديمة، كأنها خرجت من وسط الوحل كظل لأمي الحقيقية التي ما زالت على قيد الحياة. ثم تستيقظ فجأة، وتقشعرّ. تصلح من شعرها، وتؤكد أن شيئًا ما قد حدث وهي جالسة دقيقة أو دقيقتين فوق الأريكة، ومستغرقة في التفكير. وهو ما لم يكن يحدث بالطبع. تقول إن أحدهم أخذ خُفّها، وسكب ماء من الغلاية الكهربائية، ثم أشعل التليفزيون، وغيّر الساعة في هاتفها المحمول. كان كثيرًا ما يظهر عليها الإرهاق بعد كل مرة تنام فيها هكذا. كنت أقول لها: كيف تكوني مرهقة وقد نمتِ لمدة ساعتين! لكنها تؤكد أنها لم تنم، فقط كانت تسترخي، وتقرأ الأخبار على الشاشة. كانت تجيبني على مهلٍ وهي تتنفس بصعوبة، أو تهمس وهي مسدلة العينين تدعوني أن أصدقها، وتطلب مني أن أصب لها الماء في الغلاية لأصنع لها قهوة سادة قبل أن أخرج.

حفنات من الطين والحجارة محفورة بمجرفة بلاستيكية صغيرة كانت تطوق جثة قِط، وتمنع عنه الديدان والذباب، وتَحُول دون فضولي لرؤيته، وتمنعني من أن أعبث بالعصا في صدره الصغير المفتوح. كان جسده ما زال دافئًا أمام بوابة صغيرة عند مدخل حديقة الجيران، دسوه في حفرة من أثر عجلة سيارة داستها دراجة جارنا النارية بكل ثقلها فقسمته إلى نصفين متساويين، صارا كأنهما قطعتين من النقانق الموصولة بحبل. عَلِقت الأتربة بفروه، وبدت إحدى أقدامه مكسورة بطريقة لافتة. لولا حدقتي عينيه، تلك الكرتان اللامعتان المتدليتان من محجر عينيه لبدا ذلك القط الصغير كأنه نمر أسود من قصة “نمر تراسي1”، نمر صغير يرقد كما هي الحال دائمًا على الطريق، كسولًا، معتدًّا بنفسه، ومستمتعًا بدفء الشمس، يتجاهل نظراتي الفضولية.

لم أتردد كثيرًا. كنت أعرف أن أحدًا لن يهتم برفع تلك البقعة السوداء من الطريق. كنت أعرف أيضًا أني لن أمنع نفسي من أن ألتقط عصًا أو سكينًا أو حتى مقص الحديقة وأعبث في الجثة بفضول حقيقي عما يوجد تحت الفرو، وعن ملمسه، ورائحته. هل له رائحة اللحم في مطعم المدرسة، أو أنه يشبه إصبعًا مبتورًا. كنت أعرف أني أفعل شيئًا لا يليق، ولا يليق أن أفعله هنا في الشارع، من دون رداء أبيض، وأدوات معقمة، وأمل في أن أعيد إليه الحياة.
لم يتم العثور على نتائج