بلاغة السلطة

وفّقنا الله في هذا الكتاب، للظّفر بمختبر بلاغي متكامل؛ تاريخياً وسياسياً وفكرياً وأدبياً، لم نفتعله ولم نجتلبه؛ بل كان ثمرة تأمّل طويل وانتقاء دقيق. وقد جاء استنطاقنا له محاولة مخلصة، للتعبير عن فهمنا الخاص للبلاغة السياسية بمعناها الثقافي والحضاري العام. وإذا كنا قد واصلنا في هذا الكتاب، اجتناب رطانة المصفوفات البلاغية المستوردة، فقد حرصنا كلّ الحرص، على استيفاء وإبراز جملة من السياقات التي لا تكتمل الدلالةُ البلاغية الكبرى دونها. البلاغة عندنا إذن هي (الغابة) التي لا يجوز التهرّب أو التشاغل عن رؤيتها، عبر تعمّد الإمعان في عدّ بعض (أشجارها). وهي ورشة كبيرة متعالية الأصوات، لا يجوز أن نصمّ آذاننا عن الاستماع لجُلّ أصواتها -بدعوى الحساسيات التاريخية أو السياسية أو الفكرية- ثم نكتفي بتحليل صوتها الأدبي فقط؛ لأن هذا الاختزال لا يمثل سوى خيط واحد من خيوط النسيج المعقّد الذي يفترض بنا أن نحلّه ثم نحوكه مجدداً. ولعل الاعتراف بالقصور عن تتّبع الخيوط كلّها أو بالخوف من التأشير على بعضها، يظل أجدى من اقتراض مصفوفة (أُسلوبية) من هنا أو مصفوفة (حِجاجية) من هناك، ثم اختتام هذا الاقتراض، بالاعتذار عن عدم التمكن من استيفاء المطلوب البلاغي، بدعوى أن هذه المصفوفة أو تلك ما زالت في طور التشكّل، أو أنها ليست موضع إجماع بين منظّريها!