جميع الأسعار تشمل ضريبة القيمة المضافة.
المساكين

المساكين

تاريخ النشر:
2020
تصنيف الكتاب:
عدد الصفحات:
340 صفحة
الصّيغة:
7.99 ر.س

نبذة عن الكتاب

وضعتُ هذا الكتاب من إحدى عشرة سنةً،١ ولو استوى له أحد عشر قرنًا، ثم كُتبتْ له يومئذٍ مقدمة، لكان هو هو كما أصفه اليوم، كتابٌ ليس له قبلُ وليس له بعدُ؛ فهو دائر مع النهار والليل على معنًى آخِرُه في الإنسانية أولُه، معنى إذا قلت فيه إنه يجيء مع كل مولود، فقد قلتَ إنه لا يموتُ مع أحد من الموتى.
ستقرأ في الكتاب وصفَ «الشيخ علي» الذي أسندت إليه الكلام، وجعلته فيما أستوحيه كالخيط من شعاع السماء تهبط عليه تلك المعاني التي خلدَ عليها جمالُ الخلد؛ «فالشيخ علي» هذا هو رمزٌ في كل دهر لثبات الجوهر الإنساني على تحوُّل الأزمنة في أشكالها المختلفة؛ ومن ثمَّ تعيش مع الإنسانية معاني هذا الكتاب، فهو من روحها صورةً وحِليةً وجاذبيةً. ومن عجيب الحكمة أنه ما من نبي أو حكيم أو شاعر يترجم إلى لسان الحياة ما هو أسمى من الحياة، إلا استمد ذلك من مساكين الحياة خاصةً؛ هم أبدًا السحابة المستوية المخيلة لمطر العواطف٢ على جَدْبِ الروح الإنسانية في الأرض، ولعلهم لذلك يتراكمون في الحياة من سوادٍ كالغمائم، ويتشققون من نارٍ كالبُروق، ويُجلجِلون برعودٍ يئنُّون فيها، ويتبجَّسون بمطر يبكون به.٣
وأعجبُ من ذلك أنك لا تجد من شيء يُحدِث من ذي نفسه مثل هذا الأثر،٤ إلا أجملَ الجمالِ في أقوى الحبِّ، فكأن أعظمَ البؤس وأعظمَ الجمال صورتان لحكمة إلهية واحدة وإنْ اختلفَ منظر ومنظر، والسماء تغبرُّ بلون التراب في رأيِ العين حين لا تحمل إلا ماء المُزْنِ الصافي.
•••
يزعمون أننا في عصر العلم وفي دهر القانون، ويريدون أن يسلبوا الناس إيمانهم، كأن الإيمان هو مشكلة الإنسانية، مع أنه لا حلَّ لمشكلتها إلا به. إن مسألة الغنى والفقر وما كان من بابهما لا يحلُّها العلمُ ولا القانونُ؛ إذ هي من مواد القضاء والقدر في إنشاء الآلام والأحزان وأضدادها التي تقابلها، وما دام فوق الإنسانية من السماء قوةٌ لا تُحدُّ، وتحت الإنسانية من القبر هُوَّةٌ لا تُسدُّ، فلا نظامَ إلا على تصريف النفس أمرًا ونهيًا، وتأويلِ الحياة معنًى وغايةً، فإنْ لم يكن الشأن في ذلك مقرَّرًا في الغريزة على جهة الإيمان، فلن يكون العلم والقانون على ظاهر النفس إلا ثورةً بما في باطنها، ولن يبرحَ الناسُ على ذلك بعضُهم من بعض كالهارب منه وهو مضطرٌّ إليه، أو كالمضطرِّ إليه وهو هاربٌ منه، وكل من كلٍّ في معنى من معاني النفس لا إنسانيةَ فيه.
ما زاد العلماء على أن خلقوا في ساعدَي الحياة هذه العضلةَ البخاريةَ، وذلك العصب الكهربائي، فمَن لم يستطع أن يتوقَّى ضربةَ الحياة المدنية بعُدَّةٍ من قوةٍ وعتادٍ من المال، طاحَتْ به فدكَّتْه دكَّ الخسف، ووضعته من الناس موضع الحبَّة من الرحى الدائرةِ، فما بينه وبين أن ينهارَ موضعٌ يستمسك عليه، وإنما هذا الموضع هو إيمان المؤمن؛ إذ يعطف على الضعفاء، أو يُسعد أو يبرُّ بما كُتِبَ عليه أن يرقَّ لهم من ذات نفسه ويتحنَّى ويتوجَّع.
ومتى كان العلمُ والدينُ يقومان جميعًا على تنظيم الطبيعة في مادتها وإنسانيتها، لم تجرِ الإنسانيةُ إلا على ناموس بقاء الأصلح في الجهتين، فإذا تخلَّى بها العلمُ وحده، فلن تجريَ أبدًا إلا على ناموس بقاء الأصلح في ظاهرها لإيجاد الأفسد في باطنها.
لن يفلح الإنسان للحياة الطيبة — ما دام بهذا التركيب الذي لن يتغير — إلا إذا وازَنَ بين بيئته التي هو يُوجِّهها وبين طباعه التي هي تُوجِّهه؛ فقيَّد أشياء في قيودها، وأطلق أشياء من قيودها، وجمع في متبوَّأ نفسه حدًّا بحرية ودينًا بعلم. بَيْدَ أن طغيان العلم في هذه المدنية قد مَرَدَ على طباع٥ الإنسان وشمائله في كل موضع من الحياة لا تكافئه فيه قوة الدين، فإذا هو يزيِّن الشهوات، وإذا الشهواتُ تُطوِّع المغامَرَة، وإذا المغامَرَةُ تجلب المنازعة، وإذا المنازعةُ تدفع إلى الحرص، وإذا الحرص يتصرَّف بالحيلة، وإذا الحيلة تُهلك التقوى؛ وكان في تقوى الإنسان إيمانه، وكان في إيمانه رحمته، وكان في رحمته الأثيرُ الإنسانيُّ الذي تعيش فيه الروح؛ وعلى ذلك يقع في الإنسان من النقص بمقدار ما يزيد له العلم، فإذا هو منحدرٌ إلى السقوط، مُقبِلٌ على المحْقِ، راجِعٌ إلى الحيوانية بأكثرَ مما يحتمل تركيبه منها؛ أَوَلا يرى الناسُ أن تفوُّقَ أمةٍ على أمةٍ لم يَعُدْ في هذه المدنية إلا معنى من معاني القدرة على أكلها!
ومضى العلم على شأنه ذاك حتى جعل الإنسانَ آلةً من آلاته التي غمَرَ بها الدنيا، فأصبح مَن لا إيمانَ له يتعسَّفُ خسائسَه٦ لا يدري أين يؤمُّ منها؟ وأين يقف؟ فلا يتسفَّل بقوة إنسان ولا بضراوة وحش، ولكنْ بقوة آلةٍ من الآلات الكبرى ودقَّتِها وسرعتها وإتقانها … حتى لا رذيلةَ من رذائل هذه المدنية إلا هي مفنَّنةٌ في تركيب على نسَقِ الأمور المخترعة، وكأنَّ الآلات العمياء ما زادت إنسانَها شيئًا إلا أن قالت له كُنْ أعمى! وكأنَّ المدنية الملحِدة ما عَدَتْ أن جعلت الوحشيةَ تعمل أعمالها الفظيعةَ بتأنُّقٍ وتمدُّنٍ!
نسى الناس الإيمان أو انسلخوا منه، فإذا أيديهم تَمُوج بأسباب الفضائل٧ لا تُحكِمها ولا تَضبِطها، وما كان الإيمان الصحيح إلا التقوى،٨ ولا كانت هذه التقوى إلا عملًا من أعمال الإرادة، غايتُه إيجادُ الغرائز العليا في الإنسان بالأسلوب الذي لا تخلق الغريزةُ العمليةُ في النفس إلا به، وعلى النحو الذي لا تصلح في الحياة إلا عليه.
لم يتم العثور على نتائج